مركز الارتباط بسماحة اية الله العظمى السيد السيستاني (دام ظله) في لندن واوربا والامريكيتين
((فَلَوْلا نَفَرَ مِنْ كُلِّ فِرْقَةٍ مِنْهُمْ طَائِفَةٌ لِيَتَفَقَّهُوا فِي الدِّينِ وَلِيُنْذِرُوا قَوْمَهُمْ إِذَا رَجَعُوا إِلَيْهِمْ لَعَلَّهُمْ يَحْذَرُونَ))
إن الحديث عن المرجعية العليا هي حديث عن سلسلة قادت الأمة بدأت بالنبي الأكرم (ص) ومرت بالمعصومين (عهم) لتنتهي بالإمام الحجة (عجل) ونوابه الأربعة الخاصين الذين أوكلهم بشؤون أتباع أهل البيت (عهم) ونوابه العامين الذين هم المراجع الذين تصدوا لشؤون الأمة وقايتها.
الحديث عن المرجعية العليا حديث عن رأس الهرم للتشكيلات الدينية والمجتمعية لأتباع أهل البيت (عهم)، فالمرجعية العليا هي أعلى كيان في الحوزات العلمية في المناطق المنتشرة في العالم وهي التي تمثل المرتبة العليا مطلقاً في الجانب العلمي. وهي الجهة الشرعية التي يتوجه إليها السؤال والاستشارة وطلب النصيحة من المؤمنين، وما تجيب به هو الجواب الذي يكون معتمداً لديهم. وهي الجهة التي يلجأ إليها المؤمنون في النزاعات والخلافات سواء كانت شخصية أو جماعية. مضافاً إلى أنها الجهة التي يثق بها أتباع أهل البيت فيؤدون إليها أخماسهم لتحدد هي أفضل موارد الصرف لها.
هذا حديث مجمل عما تصدت له المرجعية العليا بشأن أتباع أهل البيت (عهم)، وإليك تفصيله ..
1ــ بيان الحكم الشرعي للمقلدين في المعمورة، فالمرجعية تتصدى لبيان الحكم الشرعي لجميع المقلدين في المجتمع بعدة وسائل وبعدة لغات، لتصل إلى أكبر عدد من المقلدين، فمضافاً إلى قسم الاستفتاءات في مكاتب المرجعية تجد وكلاء ومعتمدي المرجعية المتواجدون في الدول والمحافظات يتصدون لبيان الحكم الشرعي لأتباع أهل البيت (عهم)، وذلك كله من أداءً لحق الناس الذي أنيطت مسؤوليته بالمرجعية العليا.
فإن المرجع الأعلم هو الحجة على الناس يحتج لهم وعليهم يوم القيامة، فإن المقلِّد إذا سئل يوم القيامة لماذا عملت بهذا الحكم؟ أجاب: رجعت فيه إلى المجتهد الأعلم، فيكون المرجع حجة له. ويحاسب ويقال له: لِمَ لم تعمل بالحكم الكذائي؟! وقد كان المجتهد الأعلم يقول به، فلا يجد لذلك جواباً.
ولذا ورد في كتاب إكمال الدين عن إسحاق بن يعقوب قال: سألت محمد بن عثمان العمري أن يوصل لي كتاباً ــ أي يوصله إلى إمامنا (عجل الله فرجه) ــ قد سألت فيه عن مسائل أشكلت علي. فورد التوقيع بخط مولانا صاحب الزمان (ع): ((وأما الحوادث الواقعة فارجعوا فيها إلى رواة حديثنا، فإنهم حجتي عليكم وأنا حجة الله)).
وهنا تفاصيل كثيرة لا يسع المجال لبيانها، منها كيف يمكن أن أحدد المجتهد الأعلم، ولماذا لا بد أن يكون أعلم، وكفى بالشيخ المبجل علي العقيلي يبينها في الأوقات المناسبة لذلك.
نعم يمكن الاستناد إلى سيرة العقلاء في بيان ذلك، ففي جميع مجالات الحياة لا بد من الاستناد إلى الخبير المتخصص الأعلم حين الاختلاف من أجل تحري الطريق الأسلم.
2ــ الحفاظ على التخصص العلمي المنتج للفكر وكذا العلماء والباحثون.وهذا من أهم الأمور التي قد يغفل عنها المجتمع، فإن الأمة تستنير وتتقدم من خلال قوة المفكرين والمبدعين فيها في شتى المجالات، فتقاس الأمم بتقدم العلم فيها ونموه، فبتقدم علم الطب والفيزياء والهندسة والقانون والتربية وغيرها، وكذا تقدم العلوم الدينية بما تحتويه من تخصصات جمة من قبيل اللغة والمنطق الفقه ــ بجميع أقسامه ــ والأصول والتفسير والعقيدة والتاريخ والبلاغة والفلسفة وغير ذلك، يحصل التقدم في أمتنا أمة أتباع أهل البيت (عهم).
ولذا ورد في إحدى النصائح التي وجهها آية الله العظمى المرجع الديني الأعلى السيد علي الحسيني السيستاني (دام ظله) إلى شبابنا في الغرب بلزوم السعي من أجل الحصول على التخصصات العالية لأن من خلالها يمكنكم أن تتقدموا وتؤثروا في المجتمع، فتنفعون أنفسكم وتنفعون مجتمعاتكم وكذا أخوتكم في بلادكم التي هاجرتم منها.
وهناك بعض الجوانب التي تصدت لها المرجعية نتيجة لهذا المقام الذي تتحلى به، منها تربية جيل كبير من الطلبة في التخصصات المذكورة، وذلك من خلال الإشراف على المنهج العلمي الذي يتم اعتماده في المدارس الحوزوية، بتوجيه إدارات المدارس والأساتذة والطلبة نحو المنهج الصحيح ورفض المناهج غير السليمة، والحفاظ على المراتب العلمية في هذه الحوزات.
وكذا توفير المستلزمات الدراسية من قبيل بناء الجامعات العلمية والمدارس الحوزوية، وتأهيل القديم منها، وإعادة بناء ما انهدم منها بفعل الظالمين، بما يتناسب مع الظروف البيئية ويرتقي بالبنية التحتية نحو البيئة المثلى للدراسات التخصصية.
وقد تم إنشاء ثلاثة مدارس مهمة خلال السنين الأخيرة من قبل المرجع الديني الأعلى آية الله العظمى السيد علي الحسيني السيستاني (دام ظله) ..
أ ــ مدرسة العلامة البلاغي (رضوان الله عليه) وهي تستوعب ما يزيد على أربعين غرفة للمبيت، مضافاً إلى قاعات خاصة بالدرس.
ب ــ مدرسة نجم الأئمة (رضوان الله عليه) وهي تستوعب ما يزيد على (100غرفة) للمبيت مضافاً إلى أكثر ( 20قاعة) للدرس، وتعدّ هذه المدرسة من الجامعات العلمية المهمة في الوسط الحوزوي حيث اتسم نمط الدراسة فيها بالمتانة والدقة والمتابعة الشديدة، ويوجد فيها فعلاً أكثر من ( 100طالب) من مختلف البلدان، وقد حازت على المستوى الأول في الاختبارات العامة في السنين الأخيرة.
ج ــ المدرسة العلوية للعلوم الدينية، وهي أضخم مدرسة حوزوية على الإطلاق في الحواضر الحوزوية في العالم، حيث تستوعب ( 500طالب) يسكن فيها، مضافاً إلى (86 قاعة) للدرس، وهي على غرار مدرسة نجم الأئمة (رضوان الله عليه).
ويوجد الآن عدة مدارس أخرى قيد الإنشاء منها مدرسة المحقق الشيخ حسين الحلي (قد)، والمدرسة المظفرية.
كما قامت المرجعية العليا بتوفير المكتبات العامة التي تنفع الدراسات التخصصية والثقافة العامة للمجتمع من أجل النهوض بالمستوى الثقافي وتوفير الكتب التخصصية التي يصعب توفرها في المكتبات الشخصية لمعظم طلبة العلوم الدينية.
وكذا تقوم المرجعية العليا برعاية الطلبة تربوياً وعلمياً مضافاً إلى توفير رواتب شهرية ومساعدتهم في شؤون حياتهم كي تستمر هذه التخصصات، وتستمر الأجيال الحوزوية العلمية.
وكذا أنشاءت المجمعات السكنية الخاصة بالأساتذة والطلاب، ومن نماذج ذلك المجمع العلوي في النجف الأشرف. مضافاً إلى المساهمة في إيجار وبناء البيوت الشخصية السكنية لجملة من طلبة العلوم الدينية.
3ــ ومن الجوانب التي تصدت لها المرجعية العليا الحفاظ على دين الناس وعقائدها من الانحراف، فإن هذه من الوظائف الأساسية التي ينبغي على المرجعية التصدي لها، فقد ورد عن الإمام العسكري عدة روايات في فضل العالم متفقة في المضمون، منها: ((قال علي بن أبي طالب (ع): من كان من شيعتنا عالماً بشريعتنا فأخرج ضعفاء شيعتنا من ظلمة جهلهم إلى نور العلم الذي حبوناه به جاء يوم القيامة على رأسه تاج من نور يضئ لجميع أهل العرصات، وحلة لا تقوم لأقل سلك منها الدنيا بحذافيرها، ثم ينادي مناد (يا عباد الله هذا عالم من تلامذة بعض علماء آل محمد، ألا فمن أخرجه في الدنيا من حيرة جهله فليتشبث بنوره ليخرجه من حيرة ظلمة هذه العرصات إلى نزهة الجنان. فيخرج كل من كان علمه في الدنيا خيراً، أو فتح عن قلبه من الجهل قفلاً أو أوضح له عن شبهة)).
وقد تصدت المرجعية الدينية العليا وممثليها لهذا الجانب بعدة طرق، من قبيل إنشاء المراكز والمؤسسات التي تقدم الخدمات الدينية والثقافية في المجتمعات، من قبيل ..
أ ــ مؤسسة الإمام علي (ع) في لندن، وفروعها في بريطانيا، ومؤسسة التراث في ألمانيا، ومؤسسة الكوثر في هولندا، ومركز الغري في بلجيكا، ومؤسسة المنتظر (عجل الله تعالى فرجه) ومركز الزهراء (عليها السلام) في السويد، ومراكز الغدير والهدى والكوثر في كندا، ومركز الإمام المهدي (عجل الله تعالى فرجه) في الولايات المتحدة الأمريكية، ومسجد الإمام علي (ع) في نيوزلندا، وفي العراق أنشأت ودعمت مراكز ومؤسسات كثيرة وكذا إيران والهند وباكستان وبنكلادش وتركيا وأذربيجان وأندنوسيا وغيرها من البلدان.
ب ــ طباعة الكتب التي تثبت العقيدة وتمنع من الانحراف وبلغات عدة.
ج ــ التصدي للمنحرفين وشبههم التي يلقوها في المجتمع، وذلك من خلال حث المفكرين والباحثين من أجل الكتابة في هذه المجالات وكذا توجيه الخطباء والمبلغين لتوضيح الأجوبة على الشبهات ومن هنا أجد لزاماً على نفسي أن أنبه وأحذر من السير خلف المنحرفين سواء من كان منهم من تزيا بزي الدين أو لا، فإنه لا يكفي الزي الديني أساساً للاتباع، بل ينبغي أن يكون العلم ــ أي الاجتهاد والأعلمية ــ من جانب والسيرة والهدي من جانب آخر هو الأساس الموجب للاتباع.
فقد ورد عن الإمام العسكري (قد) أنه قال: ((فأما من كان من الفقهاء صائناً لنفسه، حافظاً لدينه، مخالفاً على هواه، مطيعاً لأمر مولاه، فللعوام أن يقلدوه. وذلك لا يكون إلا بعض فقهاء الشيعة لا كلهم. فإن من ركب من القبائح والفواحش مراكب علماء العامة فلا تقبلوا منهم عنا شيئاً ولا كرامة. وإنما كثر التخليط في ما يتحمل عنا أهل البيت لذلك، لأن الفسقة يتحملون عنا فيحرفونه بأسره لجهلهم، ويضعون الأشياء على غير وجهها لقلة معرفتهم، وآخرون يتعمدون الكذب علينا)).
وقد روى الكليني في الكافي ــ بعدة أسانيد ــ عن أمير المؤمنين (ع) أنه قال: ((إِنَّ مِنْ أَبْغَضِ الْخَلْقِ إِلَى اللَّه عَزَّ وجَلَّ .. ورَجُلٌ .. قَدْ سَمَّاه أَشْبَاه النَّاسِ عَالِماً .. مَا قَلَّ مِنْه خَيْرٌ مِمَّا كَثُرَ .. وإِنْ نَزَلَتْ بِه إِحْدَى الْمُبْهَمَاتِ الْمُعْضِلاتِ هَيَّأَ لَهَا حَشْواً مِنْ رَأْيِه ثُمَّ قَطَعَ بِه فَهُوَ مِنْ لَبْسِ الشُّبُهَاتِ فِي مِثْلِ غَزْلِ الْعَنْكَبُوتِ لا يَدْرِي أَصَابَ أَمْ أَخْطَأَ .. فَهُوَ مِفْتَاحُ عَشَوَاتٍ رَكَّابُ شُبُهَاتٍ خَبَّاطُ جَهَالاتٍ لا يَعْتَذِرُ مِمَّا لا يَعْلَمُ فَيَسْلَمَ ولا يَعَضُّ فِي الْعِلْمِ بِضِرْسٍ قَاطِعٍ فَيَغْنَمَ، يَذْرِي الرِّوَايَاتِ ذَرْوَ الرِّيحِ الْهَشِيمَ، تَبْكِي مِنْه الْمَوَارِيثُ وتَصْرُخُ مِنْه الدِّمَاءُ، يُسْتَحَلُّ بِقَضَائِه الْفَرْجُ الْحَرَامُ، ويُحَرَّمُ بِقَضَائِه الْفَرْجُ الْحَلالُ ..)).
أخوتي الحذر الحذر من هؤلاء، وينبغي اتباع الطرق السليمة لتمييز العالم بحق، حيث نص العلماء على لزوم تقليد العادل الذي أحرز اجتهاده وأنه لا تبرأ الذمة بتقليد غير الأعلم على الأحوط وجوباً، كما لا يجوز الترويج لشخص لم يعلم تثبته في الدين وحيازته على المراتب العلمية الصحيحة.
4ــ ومن الجوانب التي تصدت لها المرجعية هي الخدمات الاجتماعية، وهي سد احتياجات المجتمع في حال عدم تمكن الدولة من فعل ذلك ..
أ ــ كما في إنشاء المستشفيات في العراق وإيران، وكذا إنشاء وتأهيل المدارس الأكاديمية بمراحل مختلفة.
ب ــ مساعدة العوائل الفقيرة في حاجات المعيشة اليومية، فهي تقدم رواتب شهرية لأعداد كبيرة من العوائل في بلدان مختلفة بشكل مباشر أو غير مباشر، وعندنا في العراق تصرف المليارات في مساعدة العوائل الفقيرة.
ج ــ مساعدة المرضى في احتياجات العلاج أو العمليات الجراحية الكبرى سواء داخل العراق أو خارجه، وما يقدم في هذا الباب مبالغ كبيرة جداً.
د ــ مساعدة النازحين واللاجئين نتيجة للحوادث أو الأزمات والحروب، فهي منذ السنين التي بدأت الصراعات في العراق أو الدول المجاورة تقدم مساعدات كبيرة في عدة مناطق في العراق، ولعل المساعدات التي تقدمها أخيراً للنازحين نتيجة القتال ضد داعش أكبر شاهد على ذلك، وقد صرفت ما يقارب ( 6مليون دولار) في الأسبوع الأول في هجوم داعش على الموصل، حيث اضطرت أن تتصدى بأسرع ما يمكن في تلك الأيام نتيجة للظروف الصعبة التي مرت على المجتمع الموصلي وإلى الآن هي مستمرة بإرسال اللجان تلو اللجان من أجل تقديم الدعم لأخوتنا في تلك المناطق.
وهذه المساعدات بعضها تكون عينية كالملابس والمواد الغذائية وبعضها نقدية تقدم على شكل مبالغ شهرية والمساكن حيث أنشأت المرجعية الدينية العليا في النجف الأشرف مجمعاً للنازحين تتوفر فيه وسائل العيش الكريم، وقد أنهت المرحلة الأولى منه وهو 300 وحدة سكنية، وقد تم الإسكان فيه.
هـ ــ توفير مبالغ مالية أو مساهمات عينية للشباب الذين يرغبون بالزواج، وهذا المشروع في بعض المناطق على شكل تسليم الشاب مستلزمات الزواج من قبيل غرف نوم أو نحو ذلك، وفي بعض المناطق تسليم مبالغ نقدية تكفي لشراء أغلب المستلزمات المهمة للزواج.
و ــ مساعدة اليتامى والأرامل، حيث أسست المرجعية العليا مؤسسة العين للرعاية الاجتماعية في ( 2005م) والتي هدفها الأساس هو تقديم الخدمات لليتامى والأرامل، وفعلاً قد شملت المؤسسة ببرامجها أكثر من ( 45الف يتيم) وذلك من خلال برنامج شهري على شكل راتب يكفيهم وكذا مواد عينية من ملابس على ثلاث وجبات صيفية وشتوية وملابس مستلزمات مدرسية، مضافاً إلى برامج إسكان وتأهيل، وكذا برامج تربوية وتعليمية ونفسية من أجل تخفيف الضغوط عنهم، وقد كانت المبالغ المصروفة منذ إنشائها إلى نهاية العام 2016ما يقارب 108مليون دولار أمريكي.
5ــ ومن الجوانب الأخرى التي تصدت لها المرجعية العليا هي قيادة الأمة في مختلف الظروف، حيث تصدت لهذا الدور في أيام الشدة أيام الطغيان، وظلت راعية وحافظة لشؤون المؤمنين من أيام المراجع السابقين وإلى المرجع الأعلى في عصرنا.
وكذلك تصدت لذلك في أيام الانفتاح حيث سعت بكل جهدها من أجل الحفاظ على حقوق أتباع أهل البيت بل جميع العراقيين، وإن كان ذلك من أصعب الشؤون في ظل الظروف التي يمر بها بلدنا الذي يحيط به اللصوص والقتلة من كل جانب، وساعدتهم النفوس المريضة التي دب إليها الفساد، فنخرت في بنيانه.
ولكن لا يمكن للقيادة مهما كانت أن تنجح بلا وجود للأتباع المخلصين الذين يطيعونها ويقدمون التضحيات من أجل القيم التي تحملها وتدافع عنها، وخير مثال على ذلك ما جرى في السنين الأخيرة. حيث زحف أتباع يزيد وشمر وابن زياد من كل حدب وصوب ومن شتى الجنسيات والبلدان، مدعومين من دول كبرى بما لها من ماكنة إعلامية ضخمة، ومتزودين بأحدث الأسلحة، لأجل أن يدنسوا أرض المقدسات أرض علي أمير المؤمنين والحسين والعباس والجوادين الكاظمين والعسكريين. جاؤوا بقضهم وقضيضهم ليرعبوا الأطفال والنساء ويسلبوهم شرفهم وحياتهم، ويختلسوا منهم الضياء والنور كما فعلوا بأخوتنا ممن نشاركهم في أرض الوطن.
فانبرى لهم سيدنا الكبير المرجع الديني الأعلى بندائه المدوي من جوار أمير المؤمنين (ع) إلى شباب العراق، ليهبوا نجدة لهذا البلد بجميع مكوناته، فاستجاب لهذا النداء كل من ساقه توفيقه ليكون من أنصار الحق والحامي عن الأرض والعِرض، شباب لم يكملوا العقد الثاني والثالث من أعمارهم، هبوا أبناء بيوت الطين وملح الأرض، خرجوا لابسين القلوبَ على الدروعِ، لم يخافوا في الله لومة لائم، ما أروع سمتهم ووصفهم، أخذوا من الدنيا أدنى ما يحمله المسافر، وركزوا أبصارهم على ما في الدار الآخرة. فحقاً يقال فيهم ما قاله الله تبارك تعالى في أصحاب الكهف: ((نَحْنُ نَقُصُّ عَلَيْكَ نَبَأَهُمْ بِالْحَقِّ إِنَّهُمْ فِتْيَةٌ آَمَنُوا بِرَبِّهِمْ وَزِدْنَاهُمْ هُدًى * وَرَبَطْنَا عَلَى قُلُوبِهِمْ)).
فبعد أن ذكر سماحة السيد (مدّ ظله) أن كل من يقتل في هذه المعركة يكون شهيداً تسابقوا لينالوا هذا الشرف والذي هو أمل كل مؤمن، تسابقوا مخلفين وراءهم آهات الأمهات وبكاء الأطفال ونداء الزوجات، لم يصغوا لهم ولم يترددوا ــ على أنهم يكتمون عاطفة من يبكي على مصيبة زينب والطفل الرضيع وأم علي الأكبر ــ كل ذلك لم يلههم عن الاستجابة للنداء المقدس،((رِجَالٌ لا تُلْهِيهِمْ تِجَارَةٌ وَلا بَيْعٌ عَنْ ذِكْرِ اللَّهِ وَإِقَامِ الصَّلاةِ وَإِيتَاءِ الزَّكَاةِ يَخَافُونَ يَوْمًا تَتَقَلَّبُ فِيهِ الْقُلُوبُ وَالأَبْصَارُ * لِيَجْزِيَهُمُ اللَّهُ أَحْسَنَ مَا عَمِلُوا وَيَزِيدَهُمْ مِنْ فَضْلِهِ وَاللَّهُ يَرْزُقُ مَنْ يَشَاءُ بِغَيْرِ حِسَابٍ)).
فهنيئاً لهم بما قدموا، وهنيئاً لهم بما نالوا من الشرف العظيم حيث الشرف كل الشرف، هنيئاً لتلك النفوس العالية والأرواح الطاهرة، هنيئاً لمن نال شرف الشهادة وهنيئاً لمن حاز على النصر على هؤلاء المجرمين، وكما قال الله تبارك وتعالى: ((مِنَ الْمُؤْمِنِينَ رِجَالٌ صَدَقُوا مَا عَاهَدُوا اللَّهَ عَلَيْهِ فَمِنْهُمْ مَنْ قَضَى نَحْبَهُ وَمِنْهُمْ مَنْ يَنْتَظِرُ وَمَا بَدَّلُوا تَبْدِيلاً)) فهنيئاً للشهداء الذين سطرت دماؤهم أروع ملحمة يمكن أن تسجل في التاريخ الحديث.
سيدي ومولاي يا حسين يا شهيد الطفوف يا نشيد الخلود يا نسيم الكرامة ها نحن نقف أمام صفوف الشهداء الذين يسيرون على خطاك لتكتمل اللوحة التي ابتدأتها ووضعت أول ألوانها والتي تتمثل فيها صور الشجاعة والبسالة والإباء والشموخ.
سيدي ومولاي يا أبا الفضل العباس يا من لهجت باسمه صغيراً وكبيراً ها أنا نقف أمام جموع الشهداء الذين اتخذوك علماً ونبراساً لطموحهم.
سيدتي ومولاتي يا جبل الصبر وطعم الكرامة يا زينب الخلود ها قد جاءتك سرايا الشهداء امتثالاً لصرختك المدوية إلى أبد العصور.
وأخيراً أخاطب الشموع المضئية التي لا تبلى ولا تنطفئ، الشموع التي أنارت الطريق للأجيال، ورسمت مستقبلنا ومستقبل أطفالنا، وحفظت لنا الأرض والعرض، وشقت لنا الطريق في عراق علي والحسين.
أقول لهم هنيئاً لكم بما ادخر الله لكم في قوله تعالى: ((أَحْيَاءٌ عِنْدَ رَبِّهِمْ يُرْزَقُونَ فَرِحِينَ بِمَا آَتَاهُمُ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ وَيَسْتَبْشِرُونَ بِالَّذِينَ لَمْ يَلْحَقُوا بِهِمْ مِنْ خَلْفِهِمْ أَلَّا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ يَسْتَبْشِرُونَ بِنِعْمَةٍ مِنَ اللَّهِ وَفَضْلٍ وَأَنَّ اللَّهَ لَا يُضِيعُ أَجْرَ الْمُؤْمِنِينَ الَّذِينَ اسْتَجَابُوا لِلَّهِ وَالرَّسُولِ مِنْ بَعْدِ مَا أَصَابَهُمُ الْقَرْحُ لِلَّذِينَ أَحْسَنُوا مِنْهُمْ وَاتَّقَوْا أَجْرٌ عَظِيم)).
الحمد لله على ما أنعم علينا بقيادة عظيمة متمثلة بالمرجعية العليا والتي اتسمت بالحكمة والتوازن والبعد عن المنافع الشخصية من القرون الأولى وحتى عصرنا الحالي رغم الظروف الصعبة التي تحيط بها في مختلف العصور، والحمد لله على ما أنعم علينا بأمة سمعت وأطاعت.
أشكركم وأشكر صبركم كما أشكر سماحة الأخ الشيخ علي العقيلي (دام عزه) وحفظه لنا ولكم من عالم ثقة ومجاهد في سبيله.
والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته.